7.18.2010

بعض مما فى كتاب يوميات نص الليل لـ د.مصطفى محمود




* آلاف الأسئلة  .. ولا نهاية .. ولا شبع .. ولا جواب يشفى غليل العقل المتطلع إلى الحقيقة .. ولا كلمة تحمل لنا مدلولا .. كلها كلمات فارغة بلا معنى .. 

* ما اللغة إلّا مجموعة حروف وإشارات مثل إشارات مورس التلغرافية ليس فيها صدق غير الصدق الاصطلاحى الذى اصطلحنا عليه .. كل الكلمات ليست سوى اصطلاحات مرغمة على دلالات هى بريئة منها .. مجرد بطاقات كبطاقات التسعيرة قابلة للاستبدال من بلد إلى بلد ومن لغة إلى لغة ومن زمن إلى زمن .. أما الحقيقة ذاتها فهى بلا اسم ..
الحقيقة مطلقة من الأسماء .. نباشرها بقلوبنا ولا نستطيع أن نسميها بأسماء تحيط بها ..
بيننا وبين الحقيقة فرقة وانشقاق .. ارتباطنا بالحقائق ارتباط سطحى .. ارتباط بألفاظ .. ارتباط بأجسام .. خبز وثرثرة وعادات متوارثة وكلمات محفوظة وحية تمر على طريق قتل الوقت .. وقتل الحياة 


* لا شىء يضىء هذه الحياة سوى اللحظات الطفلة .. اللحظات التى نرتد فيها إلى طفولتنا وبراءتنا ونشاهد الحياة فى بكارتها ونظافتها وعذريتها من قبل أن تندسها الكلمات .
لحظات الصحو والانتباه والرؤى الطاهرة التى تقفز بنا عبر أسوار المألوف والمعتاد وتكشف لنا وجوها أخرى من وجوه الحقيقة .

* هذا أعمق ما فى الطفل .. تلك البراءة التى لا تعرف الخوف ولا الخجل ولا الكياسة ولا المجاملة 

* كلنا أرحنا أنفسنا من التفكير ومن الأسئلة ومن الأجوبة .. وشغلنا أنفسنا بما نأكل اليوم وما نشرب .. وكيف نقتل ملل هذا المساء وكيف نوقع هذه المرأة فى حبائلنا ..
ولكن الطفل البرىء العميق .. مشغول .. وهو يطرح علينا سؤاله بكل براءة .. 

* والعظيم هو الذى يحافظ على براءته وعلى أفكاره الحرة المجنحة التى تزدرى كلّ ما تواضع عليه الناس من واقع مألوف مبتذل .

* الصديقان النموذجيان هما كزوج من القنافذ .. يتعاطفان ويتعاونان ويتلازمان ويتقاربان .. ولكن لا يذوبان فى بعضهما لأن كل واحد له درقة من الأشواك تحميه من أن يقتحم عليه الآخر خصوصيته وسريته وينتهك وحدانية نفسه وقدسية استقلاله .
أنا أنظر إلى هذه الخلافات على أنها وليدة الشخصية الإنسانية وعلى أنها طبيعة .. ليست سرًّا خالصًا .. وليست لعنةً خالصة .. 
طبيعة يلزم تهذيبها كما نهذب غرائزنا الجنسية .. ولكن لا يصح استئصالها .. كما أنه لا يصح استئصال غرائزنا الجنسية ، لأن لها وظيفة ودورًا فى تكامل الشخصية وحفظ كيانها .

*الطبيعة لا إنسانية .. قاسية .. وحشيّة .. ونحن فى حاجة إلى أظافرنا وإلى أنيابنا وعضلاتنا وإلى العنف الطبيعى فى نفوسنا لنواجه هذا الطوفان من المقاومة فى الطبيعة حولنا .

* إن ضغط الدم .. والقلق .. والأرق .. الذى يصيبنى من الحقائق أفضل من الخنوثة والتراخى والفتور الذى يصيبنى من التطامن والتفاؤل .. إنه تطامن يربى الشحم على قلبى وشعورى .. ويميتنى بالسكتة لأقل خيبة أمل .. ولأتفه خبر غير متوقع .. وكل الأخبار تصبح فى هذه الحالة غير متوقعة .

* العذاب فى حشوة الكون .. وليس صنيعة الإنسان وحده ..

* إن الجمال قيمة مبثوثة فى الوجود كله .. قيمة لا تستطيع نظرية مادية أن تفسرها .

* الماضى لا يموت .. إنه يبعث فى الحاضر بألف صورة وصورة .

* الإدراك يخطو عبر الواقع ويتعالى عليه ويبحث عن معناه .. وراءه .. خلفه .. إنه يتعامل مع الوقائع باعتبارها حقائق ناقصة .. يبحث لها عن معنى ..

* إن الإنسان ليس موضوعًا ..ولا يمكن إحالته إلى موضوع ينظر إليه من خارج كما ينظر إلى خريطة جغرافية .
الإنسان هو الآخر له أعماق ( جوّانيه ) لا تحيط بها النظرة الموضوعية . الإنسان داخله نهر من الأفكار والمشاعر متجدد متدفق بغير حدود . نهر من الأسرار .. غير مكشوف لأحد سواه هو .. ولا شىء يبدو من هذا النهر من خارجه .. ولا يمكن أن تحيط به نظرة موضوعية .

* واقع الإنسان الملموس المرئى الظاهر .. ليس هو الإنسان .. إنه إفرازه .
والعلم يتحسس الإنسان من خارجه فقط .. يفحص دمه وبوله ونخاعه وعرقه ولعابه .. يفحص إفرازاته .
وهو لا يستطيع أن يخطو عبر هذا المظهر .. إلا بالاستنتاج .. ولكن الفن يستطيع أن يدخل الإنسان عبر العقل والمنطق ليخاطبه من داخله .. ليخاطب مكمن الأسرار فيه مباشرة وكذلك الدين .

* والطبيعة فى ضوء العلم وحده كابوس حقيقى .
والحياة بالمنطق وحده سخافة .
والواقع بالنظرة الموضوعية مسطح تمامًا .
الطبيعة بدون شعر .. وبدون موسيقى غير طبيعية .

* القيم لا تقدر بالموازين والمكاييل وتقاس بالأطوال .
ومستقر القيم فى وجدان ذلك الإنسان الذى يخيل إليك أنه شىء تافه حينما تقيسه إلى الكون .
معيار الحقيقة وصورتها فى قلبه .
المثل العليا فى خياله .
المستقبل رؤيا من رؤاه .
الحب والأمل والحرية أحلامه .
قدس الأقداس روحه .
اللانهاية بين جبينه .
الهوة التى فى داخله أعمق من الكون بما يحتويه من نجوم وأفلاك .. فهى هوة بلا قاع .. بلا سقف .. غير محددة غير متحيزة فى مكان .. غير ممتدة فى زمان .. وإنما هى ديمومة .. وحضور شعورى .. أشبه بالحضور الأبدى .
فهو يعيش فى آنيّة دائمة .. يعيش فى ( الآن ) دوامًا .. وينتقل من آن إلى آن .. وكأنه يمشى على وهم  .. كل خدع الحواس .. كل صور العالم الفانى حوله لا تهمه .. كل التغيرات التى تكتنف العالم المادى لا تنطلى عليه .. فهو يستشعر نوعًا غامضًا من الاستمرار .
إحساسه بكيانه يلازمه طول الوقت فلا يكاد يشعر بأن هناك وقتًا إلاّ حينما ينظر مصادفة إلى ساعة معصمه .. أو حينما يفطن إلى انصرام النهار حوله .
إحساسه الداخلى يصوّر له ديمومة مستمرة .
وعيه الداخلى ينظر دوامًا إلى الأشياء وكأنه من معدن آخر غير معدنها .. معدن دائم لا يجرى عليه حادث الزمان والفناء .. فهو موجود ليس له بداية .. وليس له نهاية .
إنه هنا .. كان دائمًَا هنا ..
وفى الأحلام حينما تحمله أجنحة الوهم إلى الأماكن البعيدة التى لم يضع فيها قدمًا يخيل له أنه رآها من قبل .. وأنه كان هناك .
.. كل حواجز الزمان تسقط فى مجال رؤيته الروحية .. فيرى فى لمحات الإلهام عبر هذه الحواجز .. وكأنما انفتحت له طاقة يطل منها على الحقيقة الأبدية . 
ولكنها لمحات .. مجرد لمحات كومض البرق الخاطف .. لا يكاد يطل منها حتى تعود حجب الزمان والمكان فتسدل كثيفةً على عينيه , وتشمله آليّة الواقع وتلقى به إلى هوّة التكرار وكأنه أصبح واحدًا من هذه الذرات المادية .. أو الأجرام الفلكية التى تدور فى عماء فى مجالاتها المرسومة بلا إرادة لتكرر دورة مقدرة لها .. ولا فكاك منها .. وتقعد به غلظة المادة .. وكأنها المرض يجعل كل شىء فيه ثقيلا .. غليظًا .
هذا هو الإنسان المعجز اللغز الذى يثيرنى أكثر مما تثيرنى كل هذه الملايين من النجوم والأكوان المترامية . 
هناك فى حشوته الحية تحت عظام رأسه .. فى جمجمته وقلبه .. وفى نبضاته .. وفى جيف أعصابه .. يكمن السر الأعظم .. الذى تتضاءل إلى جواره كل هذه الأكوان .. وكل هذه الذرات التى تدور فى عماء الآلية والتكرار .

* فى ذاكره كل منّا صورة مثالية للغروب والشروق .. والطفولة .. والأنوثة .. والرجولة .. هى محصّلة من كل التجارب والواقعية وكل المدركات الحسيّة .. أعملت فيها النفس الحذف والإضافة والتعديل بما يتفق مع آمالها وأحلامها .
فى خيال كل منا نموذج غامض لحصان يتمنى لو اقتنى مثله .. ولامرأه يتمنى لو قابلها .. ولرجل يتمنى لو صادقه ..
والفنان هو الذى يجسّم هذه الأحلام .. ويقدّمها للعين والأذن والقلب .. فتطرب وتنتشى وتشعر بهذه اللذة النادرة .. لذة العثور على أحلامها وأمنياتها .. وصورها الدفينة .
والفنان هو الوحيد الذى يستطيع أن يجسم هذه الأحلام .. لأنه الوحيد الذى يشعر بها واضحة جلّية مكتملة فى وجدانه .. أما الشخص العادى فيشعر بها غامضة مهزوزة يكتنفها الضباب ..

* إن جمال الطبيعة ليس شيئًا فى الطبيعة .. وإنما هو شىء فى الإنسان ..

* نزهتى المفضلة أن أذهب إلى قلب إنسان آخر أتظلل فى صداقته وأرتوى بكلماته .. وسفريتى المحببة أن أبحث عن روح مؤنسة لا عن بلد جديد .. 

* اختلاف الأماكن من بلد إلى بلد آخر لا يعنى كثيرًا وإنما اختلاف الناس هو الذى يعنى أكثر .. لأننا نعاشر الناس ولا نعاشر الجدران ..
وأنت لا تسافر حينما تغير مكانك .. ولكنك تكون قد سافرت حيتما توسع من ثقافتك .. وتثرى من عاطفتك وتجدد من روحك .. خفقة قلبك لامرأة .. أو صداقتك لرجل .. أو قرائتك لكتاب .. هى أسفار حقيقة .. وميلاد جديد لك .. وتاريخ جديد لحياتك وتفكيرك .
لأن الإنسان هو محطة الوصول الحقيقية ..

* وما نسميه ( بالإنسان العادى ) .. هو فى الحقيقة نموذج فى الذهن .. صورة فى الخيال مجردة من الصفات التى تستوقف نظرنا .. فالوجه العادى مثلا هو وجه .. مش مطاول .. ومش مدور .. ومش مربع .. ومش مسحوب .. ومش مبطط .. لكن هو إيه ؟! .. شكله إيه ؟ .. لن تستطيع أن تشبهه بأى وجه تعرفه .. لأن كل الوجوه فى الواقع غير عادية . كل وجه فيه شىء يجعل منه وجهاً مميزاً .
وبالمثل شخصياتنا .. كل شخصية فيها امتياز .. فيها جانب تفوّق .. فيها استعداد لشىء .. فيها بذرة عبقرية .. ولكن البذرة هذه لا يفطن لها صاحبها ولا يكتشفها ولا يدركها فتضيع عليه .. ويخيل إليه أنه إنسان عادى .
ونحن فى العادة نموت قبل أن نكتشف مواهبنا وقبل أن نتعرّف على مميزاتنا .. نموت حسرة أننا أناس عاديون .

* والسرّ فى أن أغلب الناس عاديون .. أن اكتشاف الإنسان لنفسه وتعرّفه على كنوزه ومواهبه ليس شيئًا هيّنًا .. وإنما هو اكتشاف أصعب من غزو الفضاء .
وقليلون جدًّا هم الذين يستطيعون أن يقوموا بهذه الرحلة الشاقة إلى داخل نفوسهم .
إنها رحلة أصعب من رحلة كولومبس وجاجارين .
إن رحلة كولومبس إلى أمريكا كانت رحلة لها خريطة وبوصلة وفيها معالم وحدود وبحر وأفق وأرض وسماء .
ورحلة جاجارين كانت فيها مئات الأجهزة والعدادات والرادارات والموازين والمكاييل والمناظير .
أما رحلة الإنسان لاكتشاف نفسه فإنها خبطة عشواء فى الفراغ .. فى أغوار نفس مظلمة ليس لها سقف ولا قاع ولا خريطة ولا معالم .

* لنكتشف نفوسنا لابد من الخروج من نفوسنا والارتماء فى الواقع والاحتكاك بالناس والمجازفة والمغامرة والتعامل بالحب والكراهية ومعاناة الألم والعذاب وخيبة الأمل .

* العلم والخبرة .. والإحساس .. والمعاناة .. والتجربة .. والجرأه على اقتحام المخاطر .. كلها أدوات ضرورية لهذه المرحلة التى نهبط فيها جوف ذلك البركان الذى اسمه نفوسنا .
وأهم من جميع هذه الأدوات .. الإلهام .. البصيرة .. والنور الداخلى الذى يدلّنا على نفوسنا فى لحظات الصفاء .

* إن النفس الإنسانية دغل كثيف .. غابة .. كهف تختبىء فيه الأفاعى .. وفيه أيضًا إلى جوار الأفاعى .. الكنوز واللآلىء النادرة .
وأنا لا أعتقد بوجود نفوس عادية .. وأعتقد بأن كل نفس موهوبة .. وإنما هى تصبح عادية حينما يغفل صاحبها عن اكتشاف هباتها .. ويضل الطريق إليها .. ولا يكلف نفسه مشقة البحث وعناء الاختبار ..
إنك لن تدرك مدى خوفك ولا مدى شجاعتك إلا إذا واجهت خطرًا حقيقيًّا ولن تدرك مدى خيرك ومدى شرّك إلا إذا واجهت إغراءً حقيقيًّا ..

*إن الاحتكاك والدخول فى تجربة هو الوحيد الذى يكشف عن أصالة الخلق وصدق المناعة وسلامة الإرادة والتصميم على سلوك بعينه ..

* الاصطدام بالمحال ضرورى لكشف الحقيقة .. 
ونحن لا نفهم أنفسنا ولا نفهم الناس إلاّ فى هذه اللحظات ..لحظات الصدمة والمحال الذى نخرج منه مجروحين مصابين بخيبة الأمل والتعاسة والوحدة والغربة .. وهى بقدر ما تكون غربة بالنسبة للآخرين تكون فى الواقع قرابة وصداقة وصلة أعمق بيننا وبين أنفسنا .. وإدراكًا أعمق لحقيقتنا ولخيرنا وشرّنا .. وكما نعرف أخلاقنا من خلال محنة السقوط والإغراء .. يستطيع الفنان أن يكتشف عبقريته من خلال اصطدامه بالعمل الفنى ومحاولته للإبداع .. ويستطيع الجرّاح أن يكتشف موهبته على مائدة العمليات وهو يصطدم بالمعضلات الجراحية ..

* الالتحام بالواقع هو المرآه التى تستطيعين أن تشاهدى فيها عقلك وتتعرّفين على ملامح نفسك .. وتعرفين فى أى الأمور أنت عبقرية .. وهو نفسه المرآه التى تستطيع فيها أن ترى نفسك أنت أيضًا .. 
والثقة هى دائماً فاتحة الطريق ..
ثقى أنك موهوبة .. وأن الله قد خصّك بشىء .. وأنك لم تخلقى لتشبهى الملايين من أمثالك .. وإنما أنت جئت إلى الدنيا فى بعثة مقدّسة لتكتشفى جوهرتك وتصقلينها ..
وليتق كل واحد أن تحت مظهره العادى .. بذرة .. فى مكان ما ..
بذرة عبقرية .. عليه أن يبحث عنها ويكتشفها ..
وسوف يكون كل شىء بعد ذلك ممكناً ..

* كلما اتسع مدار التاريخ وكلما تقدمت عربة التطور .. تتغيّر معانى الكلمات وتنقلب إلى نقيضها ..

* إن الحياة مشكلة عويصة تخبل العقل .. 

* ولكن حقيقة الحياة وحقيقة سرها .. أنها غير كاملة . وأنها ناقصة وضعيفة ومعطوبة ومريضة .. وهى لذا تتطور وتخرج باحثة عن كمالها ، تخرج فى مخاطرة مجهولة المصير كل يوم منذ ملايين الملايين من السنين .. لتصارع الجوع والموت وتتبع المحاولة بالمحاولة والتجربة بالتجربة لتحسين أصنافها وتعديل أنواعها بأنواع أحسن تتحمّل الحرّ والبرد والمرض .. 

* الحياة قلقة متفجّرة بطبعها ، تكره الاستقرار والاستمرار على وتيرة واحدة . وتكره الرضى والقناعة والقبول والاستسلام .. وإنها شبقة شهوانية يتآكلها الطموح والقلق الحافز والمخاطرة بسبب وبدون سبب لاقتحام المجهول وكسب أراضى جديدة .. مغرمة بالتغيير والتبديل والتصنيف وتخريج موديلات جديدة كل يوم .. وكل لحظة ..

* إننا لا نعرف ماذا نستهدف بالضبط ؟
نحن ننطلق كالقذيفة بفعل وقود ذرى من الحماس الغامض والأمل نحو أغراض مؤقتة يخيل لنا كل مرة أنها غاياتنا ثم مانلبث أن نكتشف بسرعة أنها لم تكن إلا محطّات نتوقّف عندها ونطرق الباب فتخرج لنا أشباح ليست فيها ملامح الآمال التى كنا نتوقعها ..
لذة الجنس تبدو لنا فى لحظة أنها غايتنا .. ونستهدفها .. مرة بعد مرة .. ونكتشف كلما طرقنا بابها وكلما فتحت لنا الباب أنها ليست هى الشىء الباهر الذى كنا نحلم به .
المكسب المادى يبدو لنا فى مرحلة أخرى أنه هو الحافز الذى يحفزنا والهدف الذى يشكل سلوكنا ويفسر نشاطنا واهتمامنا .. ولكننا حينما نحصل على المكسب المادى لا نصل إلى سكينة ولا نبلغ اطمئنانا .. وإنما نظل نتحرق .. نتحرق على ماذا ؟! ..
اللذة فى يدنا .. والفلوس فى جيبنا .. ماذا نريد ؟ وعلام نتحرق ؟ لم يكن المكسب المادى هدفنا إذن .. وإنما كان سرابًا .. لسنا عبيدًا للجنس والطعام .. ولا للأمان المادى .. إنها كلها محطات على طريق هذا السلم الحلزونى الصاعد إلى مالانهاية فى ناطحة السحاب التى اسمها الحياة .. محطات مؤقتة .. وأننا ولدنا نجرى وسنعيش نجرى برسالة مجهولة إلى زبون مجهول فى شقة مجهولة .
كل الظواهر تدل على أننا جميعًا ضحايا مطالب غير محددة وحاجات لا نهائية غير قابلة للإشباع .. ليست الجنس .. وليست الطعام .. وليست المادة .

* إننا جميعًا باعتبارنا محكوما علينا بالإعدام .. بالموت .. فى نهاية حياتنا لابدّ أن نعطى الحق فى أن نطلب طلبًا .. فى أن نطلق صيحةً .. فى أن نقول رأيًا .. وحيث يكون كل شىء فاسدًا وفانيًا وقصير العمر فإنه لا يكون هناك معنى للتعصّب .. ولا يكون هناك معنى لادعاء العصمة .. فكل إنسان عرضة للخطأ .. وكل نظام عرضة لأن يتآكله السوس من جانبه ..

* إن الجنة هدف مزعوم فى خيال كل واحد منا يحاول أن يحققه بالتقسيط على محطات .. وهو فى كل محطة يفاجأ بأن الجنة ليست هنا .. الجنة فوق .. فيجرى إلى فوق .. فيفاجأ بأن الجنة فوق .. وهو أبدًا يهرول إلى فوق .. ولايوجد سقف للتطور .. ولا روف جاردن للحياة .. ولا نظرية واحدة للحق الأسمى والخير الأسمى .. كل ما هنالك محاولات متواضعة تنتهى كما يتنهى أصحابها وتصححها محاولات أخرى تدوس عليها وتصعد عليها .. ثم محاولات ثالثة تدوس على الاثنين .. وهكذا بلا آخر .. مجرد محاولات قصيرة العمر مثل أصحابها .. فلماذا التعصب ؟ .. ولماذا المشانق ؟ .. ولماذا الحروب الغبيّة؟ .. 

* أحيانًا أشعر بأن الغرور فضيلة ..

* لا أصدق أن العباقرة يضحّون بشىء ولا أن العظماء المصلحين يقتدون بمدهم أحدًا ..
إن هذا لذّتهم ..
لذّتهم المجد والتفوّق ..
ولو أنهم أعطوا الحرية والأمان وخزائن الذهب وكمّمت أفواههم لكأن هذا هو عذابهم الأكبر .. واستشهادهم الحقيقى ..
إنهم نسور حقيقيون لا يطلبون إلا الأعالى ولو كان طريق هذه الأعالى هو الشوك والدم والعرق .. فإنّ هذه الأشواك هى السكر المعقود فى أفواههم .
وما هو التاريخ ؟ ..
إنه أكداس من الغرور .. والكلمات الطنّانة .
إنه الكتاب الأبدّى الذى يكتبه دائمًا المتحيّزون .. أصحاب المصلحة .. أما الآخرون فإنهم يموتون وتموت آراؤهم معهم .
الإنسان ذلك الطاووس .
إن كل فضائله لا تستطيع أن تخفى غروره لأنّى أرى هذا الغرور .. وأكثر .. أنا أحسه .. إنه حكّة فى بدنى .. لا عزاء لى من لعنتها الأبدية .. إلا أن أخلق بها شيئًا جميلا .
أحاول أن أجملها فى عينى .. وفى عين الناس بالبحث عن عذر جميل لبقائها ..
الأدب ..
الفن ..
الموسيقى ..
الشعر ..
إنها سيمفونية الألوهية والعظمة والمجد والشموخ التر يعزفها الإنسان لنفسه وللناس على أفيونها كل ليلة ..

والإنسان ليس مخيّرًا فى هذا الغرور .. إنه محكوم عليه بغروره .
إنها ضرورة بقائه تحتم عليه أن يدافع عن هذا البقاء بأن يوظّفه فى شىء ويتفّوق به على نفسه .

* الإنسان تحكمه ضرورة نموّ .. ضرورة تدفعه دائمًا إلى فوق .. مثل الضرورة التى تدفع عصارة النبات من الأرض إلى فوق ..
ولا يوجد طريق عكسّى .
وراءنا لا يوجد شىء .. وكل من يتقهقر يقع فى هذا اللاشىء ويموت . الحياة صمام يدفع إلى اتجاه واحد .. النموّ والارتفاع .. والعلّو .. والتفوّق والتسلّق .
والعاطفة التى تحرس هذه الدوافع ، هى الغرور .. والطموح وعشق المجد .. وما نسمّيه أحيانا بالكرامة والعزّة والكبرياء .. والشرف .
إنها المسلّح الذى يحول دون سقوط هذا البنيان من الورق .
غرورنا ينفخ فينا فنطير مثل طيّارات الورق إلى فوق .
كلنا أطباق طائرة .. تتفاوت مجالاتنا بحسب ما فينا من وقود وغرور.
وهذا المقال نفسه غرور .
وهذه الثقة التى أكتب بها غرور .
وإن كان اعترافى بهذا الغرور يداوينى بعض الشىء من الغرور الكاذب .. ويحفظ لى كفايتى من الغرور النافع .

* سرّ الحياة .. سرّ الشباب .. والصبا والطفولة .. سرّ اللذة .. 
أن أعيش حياتى على آخرها وأنفجر مثل البالونة ..
أن أقول كلمتى وأتحطّم ..
أن أعلن حقيقتى .. ورغباتى .. بلا خوف .. وبلا تحفظات ..
أن أجاهر بكل ماهو صادق وحقيقى فى نفسى بلا مبالاة .
أن أعيش كالطفل البسيط المرح .. أبعثر انفعالاتى وأضحك من قلبى .. وأبكى من قلبى .. 
ألّا أخفى شيئًا على سبيل الحذر .. وأنكر شيئًا على سبيل الحرص وأدّعى شيئًا على سبيل الأمان .. فما الحرص والحذر والأمان إلّا أعراض الموت والشيخوخة والتعفن والصدأ .. 
إن الشيوخ والعجائز والكهول هم الذين يزنون الأمور بحنكة .. ويترددون .. ويقدّمون رجلا ويؤخّرون أخرى .. ويكذبون .. ويحتالون .. على سبيل الاحتياط .. والحرص .. والحذر ..
وهم يحتاطون لأنهم يشعرون أن حياتهم نفدت وأيامهم انتهت .. لم يعد لديها رصيد يعتمدون عليه ليقوموا بعمل جرىء .. لم تعد لهم ثروة من العمر يقامرون عليها ..
الحنكة والحيطة والحذر تزحف على الإنسان مع أعراض الروماتزم والنقرس وتصلب الشرايين ..
إنها الصدأ الذى يصيب الروح بالإمساك فتحتبس خلف الضلوع .. لا تقول شيئًا ..
اللهم قنى شرّ الحرص والحذر والحيطة .. وأحينى طفلا شجاعًا .. وأمتنى طفلا شجاعًا ..
اللهم إنى لا أريد أن أكون محنّكًا أبدًا ..
أريد لقلبى أن يتفجّر وهو يقول ما فيه .. ولا أريده أن يموت مطوّيًا على سرهّ ..
هذه حياتى ولست أملك حياةً أخرى غيرها .. عاونّى لأمنحها كلها وأنفقها .. وأبذرها .. وأهتك سرّها ..

    مـصـطـفـــى مـحـمـــود




هناك 3 تعليقات:

  1. حصلت على بلدي بطاقة مبرمجة بالفعل وبطاقة الصراف الآلي ل
    سحب الحد الأقصى وهو 50،000 دولار شهريا لمدة أقصاها 12 شهرا. أنا سعيد جدا بهذا لأنني حصلت على الألغام الأسبوع الماضي
    ولقد استخدمت للحصول على 150،000 $ بالفعل. جورج بيدنورز المتسللين هو إعطاء
    خارج البطاقة فقط لمساعدة الفقراء والمحتاجين على الرغم من أنه غير قانوني ولكن ذلك
    هو شيء لطيف وانه ليس مثل احتيال أخرى التظاهر
    الحصول على بطاقات الصراف الآلي فارغة. ولا أحد يلقى القبض عندما
    باستخدام البطاقة. الحصول على لك من جورج بيدنورز المتسللين اليوم! فقط أرسل بريدا إلكترونيا
    ل georgbednorzhackers@gmail.com

    ردحذف